تتحرك المادة في دوامةٍ حول الثقب الأسود الكبير في مركز مجرة درب التبانة، حيث رصد الفلكيون مجالاتٍ مغناطيسية باستخدام “منظار أفق الحدث”. فمن بين قائمة الأسئلة حول الثقوب السوداء والتي لم تلق جواباً يبرز سؤالٌ مفاجئٌ: كيف تأكل هذه الثقوب؟ فبخلاف العديد من الألغاز التي صنعتها الثقوب السوداء يبدو هذا السؤال سهلاً جداً: فماذا تعني بأننا لا نعرف كيفية سقوط الأشياء إلى داخل الثقب الأسود؟
يصبح السؤال ذا معنىً إذا توقفت عن التفكير بالثقوب السوداء كمكنسةٍ كونيةٍ (وهي ليست كذلك بالطبع)، وبدأت تنظر لها كجسمٍ فيزيائيٍ وفلكيٍ تحكمه قوانين المدارات الفلكية كالنجوم والكواكب في الكثير من الحالات. فمثلاً، لا تسقط الأرض في داخل الشمس. ولأن كل الأشياء متساويةٌ، فإن جسماً يدور حول ثقبٍ أسودٍ من على بُعد مسافةٍ آمنةٍ سيستمر في الإبحار بسلامٍ في مساره إلى أجلٍ غير مسمىً بالمثل. ولكننا نعرف أن أجساماُ تسقط داخل الثقوب السوداء باستمرارٍ، وذلك لأن طاقة الجاذبية للأجسام تتحوّل إلى إشعاعٍ كهرومغناطيسيٍ كالضوء بعد أن تسقط، فتضيء الثقوب السوداء.
هذه طريقةٌ أخرى للتفكير في المسألة. يقول شيب دولمان وهو مدير منظار أفق الحدث: “إن للثقوب السوداء جاذبيةٌ قويةٌ، فهي تحاول أن تضغط كل شيءٍ في حجمٍ صغيرٍ.” و يضيف: “لا توجد طرقٌ كثيرةٌ لفعل ذلك، فإن ضغطت جزيئات الغاز سترتفع درجة حرارتها. خذ هذا الغاز المضغوط المتدفق إلى حدود الثقب الأسود في منطقة أفق الحدث بينما تقترب الجزيئات من بعضها البعض أكثر وأكثر، مما سيرفع درجة حرارتها أكثر وأكثر وستحاول الهرب بعيداً. إن إقناع كل هذا الغاز بالذهاب إلى منطقة أفق الحدث ليس بالشيء اليسير.”
نشر مجموعةٌ من الفلكيين المتعاونين مع منظار أفق الحدث النتائج في دورية ساينس، والتي أظهرت أن المجال المغناطيسي أساسيٌ في هذه العملية. حيث رصد الفلكيون في ملاحظاتٍ أُجريت في عام ٢٠١٣مـ وجود مجالاتٍ مغناطيسيةٍ منتظمةٍ بالقرب من منطقة أفق الحدث لثقبٍ أسودٍ عملاقٍ في مركز مجرة درب التبانة يدعى بـ القوس أ* والذي تُقدر كتلته بأربع ملايين كتلة شمسية.
يبدو أن هذه هي طريقة عمل الثقوب السوداء: تشكل المادة المكوّنة من الغاز والغبار الكوني ما يشبه فطيرةً مسطحةً عندما تدور حول الثقب الأسود، وتدعى بالقرص المُزوّد. ويتم مغنطة هذا الغاز مثل كلّ الغاز في الكون، لتخترق بذلك خطوط المجال المغناطيسي القرص المُزوّد أثناء تشكله. ولكن القرص المُزوّد منطقةٌ شديدةٌ الكثافة، حيث تصل درجة حرارة الغاز إلى مليارات الدرجات، ويتحرك في المدار بسرعةٍ تصل إلى سرعة الضوء.
يقول الدكتور مايكل جونسون المشارك بأبحاث ما بعد الدكتوراه في منظار أفق الحدث في مركز هارفارد-سميثونيان للفيزياء الفلكية والمؤلف الرئيسي لهذه الورقة العلمية الجديدة: “يتراقص المجال المغناطيسي بينما يمزق الدوران المتفاوت قرص المُزوّد.” هذا التمدد والتراقص يحدث اضطراباً في القرص المُزوّد، فيولد احتكاكاً يسحب المادة للداخل، والذي لولاه لاستمرت المادة في الدوران بدون انقطاعٍ. من خلال هذه العمليات يتحول القرص المُزوّد إلى دوامةٍ من المواد التي حُكم عليها بالفناء والملزمة بأن تنصرف من كوننا.
لقد كانت هذه الصورة الأساسية متواجدةً بعدة أشكالٍ منذ منتصف السبعينات، ولكن لم يسبق أن شوهدت المجالات المغناطيسية مباشرةً حتى درّب منظار أفق الحدث ثلاثة مناظير راديوية في مركز المجرة.
يستخدم منظار أفق الحدث تقنيةً تدعى تداخل خط الأساس الطويل جداً، حيث يجمع العلماء البيانات من مناظير متباعدةٍ جغرافياً ليقوموا بدمجها معاً لاحقاً، محاكين بذلك عمل منظارٍ أكبر. ولقد تم تجهيز كلّ المحطات المساهمة في تقديم الملاحظات لمشاهدة نوعين من الضوء المستقطب، وهذه المحطات هي: مجموعة ما دون الميليمتر ومنظار جايمس كليرك ماكسويل في ماونا كي في هاواي، والمجموعة المشتركة لأبحاث أمواج الميليمتر في كاليفورنيا، ومنظار ما دون الميليمتر في مرصد اريزونا الراديوي. ومن ثم عزل الفلكيون الضوء باستخدام توقيع استقطابٍ مميز من خلال عمليةٍ معقدةٍ لقياس مدى ترابط، مما يدل على وجود مجالٍ مغناطيسيٍ قويٍ بعضه شديد الانتظام وبعضه فوضويٌ في المحيط المباشر للثقب الأسود، حيث نشأ الضوء. ولقد كان الرصد المباشر للمجالات المغناطيسية المفترضة منذ فترةٍ طويلةٍ في قلب أحد أكبر الألغاز حول الثقوب السوداء سابقةً كبرى.
سيكون من المدهش رؤية كيفية تفسير النظريين تلك المشاهدات. وسيكون مثيراً للاهتمام أكثر أن نرى كيف يمكن لهذا النوع من النتائج بما فيها الخرائط التفصيلية والصور التي سيحيكها منظار أفق الحدث، خاصة بعد توسعه من ثلاث محطات في عام ٢٠١٣مـ إلى ثمانية محطات بالإضافة إلى شبكةٍ ممتدةٍ من المناظير الدوارة حول الأرض. والمزيد من تلك المحاولات ستعرض في مقالٍ آخر.
المصدر (scientificamerican)
منظار أفق الحدث Event Horizon Telescope (EHT)
القوس أ* *Sagittarius A
دورية ساينس Science
مايكل جونسون Michael Johnson
مركز هارفارد-سميثونيان للفيزياء الفلكية Harvard-Smithsonian Center for Astrophysics
تداخل خط الأساس الطويل very long baseline interferometry
مجموعة ما دون الميليمتر (Submillimeter Array (SMA
منظار جايمس كليرك ماكسويل (James Clerk Maxwell Telescope (JCMT
والمجموعة المشتركة لأبحاث أمواج الميليمتر (Combined Array for Millimeter-Wave Research (CARMA
ترابط الضوئين (cross-correlation
القوس أ* *Sagittarius A
دورية ساينس Science
مايكل جونسون Michael Johnson
مركز هارفارد-سميثونيان للفيزياء الفلكية Harvard-Smithsonian Center for Astrophysics
تداخل خط الأساس الطويل very long baseline interferometry
مجموعة ما دون الميليمتر (Submillimeter Array (SMA
منظار جايمس كليرك ماكسويل (James Clerk Maxwell Telescope (JCMT
والمجموعة المشتركة لأبحاث أمواج الميليمتر (Combined Array for Millimeter-Wave Research (CARMA
ترابط الضوئين (cross-correlation
ترجمة: فاطمة عبدالله.
0 التعليقات :
إرسال تعليق